الشعبوية في تونس- صراع النخب وأحلام المواطنين

في عالم السياسة التونسية المعاصر، تتجلى صورة معقدة ومشهد مليء بالتناقضات. فإذا أمعنتَ النظر في قائمة المتهمين بالخيانة والتآمر، يظهر جليًا وجود رئيس جمهورية سابق، كان يومًا ما في خدمتكم، بالإضافة إلى رئيس وزراء سابق، وطامح سابق لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2019، وكلهم مصنفون تحت بند "الفارين من العدالة". وعلى الجانب الآخر، نجد في صفوف المقبوض عليهم والخاضعين للمساءلة القضائية، شخصيات بارزة ونشطاء من أحزاب كانت تعتبر في يوم من الأيام جزءًا من الثورة، مثل الشيخ راشد الغنوشي، والمفكر خيام التركي، جنبًا إلى جنب مع رموز من الثورة المضادة، كالسيدة عبير موسي، إضافة إلى عدد من الإعلاميين – أو بالأحرى، صنّاع التضليل – الذين كانوا في طليعة هذه الثورة المضادة.
بشيء من السخرية الممزوجة بالشماتة – والتي لم أتمكن من كبحها – أتصور حجم الدهشة التي انتابت السيدة عبير موسي وأولئك الإعلاميين المضللين، وهم يجدون أنفسهم في نفس القارب، وفي نفس المجموعة الموسومة بـ "الخونة" و "العملاء"، إلى جانب شخصيات مثل الشيخ راشد الغنوشي أو غازي الشواشي.
لا ريب أن دهشتهم – أو صدمتهم، إن شئت الدقة – تنبع من اكتشافهم المتأخر، وبعد فوات الأوان، أنهم كانوا يعملون بكل غباء لصالح طرف ثالث، مهدوا له الطريق وأزاحوا العقبات لدخول قصر قرطاج، بينما لم يجنوا لأنفسهم سوى أبواب السجون.
إن اجتماع شخصيات متباينة كراشد الغنوشي، ذي الخلفية الإسلامية الديمقراطية، وخيام التركي، العلماني الديمقراطي، وعبير موسي، المنتمية إلى نظام التجمع، ووقوفهم جميعًا أمام نفس المحاكم بتهم متشابهة تفتقر إلى الذوق والمصداقية، لهو أمر يثير الاستغراب حقًا.
لفهم هذا التجمع العجيب، لا بد من الاستعانة بما يعرف في علم الرياضيات بـ "نظرية المجموعات".
هذه النظرية تجيز تصنيف الأشياء التي تشترك بخصائص معينة في مجموعة واحدة، بهدف البحث عن العلاقات المعقدة التي تربط بينها. على سبيل المثال، يمكن وضع التفاح الأصفر والأحمر والأخضر في مجموعة واحدة تحت اسم "مجموعة التفاح"، نظرًا لامتلاكها الطعم اللذيذ نفسه. وبالمثل، يمكن جمع التفاح مع الموز والإجاص والعنب، بالرغم من اختلاف أشكالها، في نفس المجموعة، لأنها تشترك في كونها مأكولات لذيذة تعرف باسم الفاكهة.
وهكذا، تمنحنا نظرية المجموعات مفتاحًا لفهم هذه الظاهرة الغريبة. فالشيخ راشد والسيد التركي والسيدة موسي – عند النظر إليهم بموضوعية ومن قرب – يختلفون اختلافًا جوهريًا من الناحية السياسية والنفسية والأخلاقية والمعرفية، تمامًا كاختلاف الموز عن التفاح والعنب.
إلا أنه عند النظر إليهم من بعيد، أو وفقًا لتعميم سطحي، نجد أنهم جميعًا يأكلون اللحم يوميًا، ويسكنون في أحياء نظيفة، ويمارسون مهنًا مرموقة، ويسافرون بالطائرات، ويزوجون أبناءهم بسهولة، ويتحدثون بلغة راقية، ويتصدرون الأحداث. وعلى النقيض من الفاشلين الذين لا يُعتد بهم ولا تذكرهم الركبان، فهم ينتمون إذًا إلى نفس المجموعة التي تدعى "النخبة"، تمامًا كانتماء الموز والإجاص والتفاح والعنب إلى نفس المجموعة التي اسمها "الفاكهة".
هذا الاستغراب يتحول إلى تساؤل: من هم هؤلاء الذين يجمعون ما لا يمكن جمعه في نظرنا؟ لا شك أن بينهم اختلافات جذرية في الشكل والمضمون، كالاختلاف بين الموز والتفاح والعنب.
ولا ريب أن بينهم أميين ومثقفين، ومن لا يملكون القدرة على الزواج ومن هم أرباب أسر، ومن لا يتذوقون اللحم إلا في الأعياد ومن يأكلون ثمار البحر.
ومن المرجح أيضًا أن بينهم أصحاب شهادات عليا عاطلين عن العمل، ومهنيين أفلست أعمالهم، وإعلاميين يرون أنفسهم أجدر بالاهتمام من السياسيين الذين يغطون أخبارهم. فهل توجد، بالرغم من كل هذه الاختلافات، خاصية مشتركة على الأقل تمكننا نحن أيضًا من وضعهم داخل مجموعة واحدة؟
نعم، إنها كراهية النخب، وتحميلها مسؤولية كل مساوئ الوضع الراهن، والدعوة إلى الانتقام منها. ألا يرددون دائمًا عبارات مثل "نكبتنا في نخبتنا"، وبالعامية "كلهم كيف كيف"، أي أن جميع السياسيين متساوون في الفساد والكذب على الشعب المسكين والسعي المحموم وراء المناصب؟
هؤلاء الذين لا يفرقون بين نخبة الثورة التي تسعى إلى تحريرهم، ونخبة الثورة المضادة التي تسعى إلى إدامة تبعيتهم، والذين يجمعون الغنوشي وموسي والتركي في نفس السلة، هم المحرك والطاقة التي تخلق وتغذي هذه الظاهرة التي نسميها في عصرنا الحالي "الشعبوية"، وغالبًا ما تكون هذه التسمية مصحوبة بنبرة تحمل قدرًا كبيرًا أو قليلاً من الازدراء والتهكم والاستنكار والخوف.
لقد تناول الصديق حسن أوريد هذه الظاهرة بكثير من الدقة في كتابه عن الشعبوية، وأود – بعيدًا عن الأحكام المعيارية – أن أواصل التعمق فيها، وذلك بالعودة في البداية إلى جذر المفهوم، أي إلى كلمة "الشعب".
لقد حاولت في كتابي "المراجعات والبدائل" أن أبين أنه لا وجود للشعب إلا بوجود الدولة الوستفالية كواقع أو كمشروع. لكن الدولة هي حدث عارض إذا ما قورن بمقياس التاريخ. ففي الأماكن التي نسميها اليوم تونس أو الأردن أو بوليفيا، عاشت على مر القرون مجموعات بشرية لم يطلق عليها أحد اسمًا إلا منذ أقل من قرن، ألا وهو الشعب التونسي والشعب الأردني والشعب البوليفي. ومن المؤكد أن هذه التسميات ستختفي بعد ألف عام أو حتى مئة عام، وذلك مع اختفاء أو حدوث تغيير جذري في خريطة دول العالم، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالاسم الذي سيعرفون به.
ولكن، وبخلاف التحول المستمر في هوية المنتمين إلى دول متغيرة الحدود، فإن المجتمعات البشرية التي عاشت وستعيش في الأماكن التي نسميها تونس أو الأردن أو بوليفيا، تحمل تركيبات ثابتة عبر القرون: التركيبة البيولوجية – ذكور وإناث – والتركيبة الديمغرافية – أطفال وكهول وشيوخ – والتركيبة الاقتصادية – فقراء ومتوسطو الحال وأغنياء – والتركيبة الصحية – أسوياء ومرضى – والتركيبة المعرفية – أميون ومتعلمون ومثقفون – وأخيرًا التركيبة السياسية.
في هذا المستوى، تمتلك كل المجتمعات ثلاثة مكونات ثابتة لم تنجح حتى الآن لا الأديان ولا الثورات السياسية في استبدالها بمكونات مختلفة جذريًا:
- المكون الأول: أقلية تستولي بالقوة على النصيب الأكبر من الثروة والسلطة والاعتبار، وهي مجموعة السادة. هؤلاء هم أولياء الأمر أو الرعاة الذين يدعون دائمًا الصلاح والسعي لتحقيق مصلحة الرعية.
- المكون الثاني: أقلية مناهضة للأقلية الأولى، تعمل على مقاومتها من أجل توزيع أكثر عدلاً للثروة والسلطة والاعتبار، وهي مجموعة الثوار التي أطلقت عليها اسم شعب المواطنين.
- المكون الثالث: أغلبية تعيش على الفتات الذي تحدده حالة الصراع بين السادة والثوار، وهي مجموعة الرعية التي أطلقت عليها اسم شعب الرعايا.
كل هذه المجموعات في حركة مستمرة وفي تداخل دائم، مع إمكانية انتقال الأفراد من مجموعة إلى أخرى تبعًا لظروف الصراع.
هذه التركيبة السياسية هي الترجمة الاجتماعية للتركيبة النفسية للإنسان، والتي يجتمع فيها الخير والشر بصورة دائمة، وهي التي تعطينا ما أسميه الإنسان المفترس – النموذج المتمثل في الدكتاتور والإقطاعي والرأسمالي الجشع – والإنسان الفارس – النموذج المتمثل في النبي والمصلح والثائر، وهو المكون الأساسي لشعب المواطنين – والإنسان الفريسة – النموذج المتمثل في العبد والعامل المستنزف، وهو المكون الأساسي لشعب الرعايا.
في داخل هذا الشعب، يوجد قدر هائل من وجع الظلم وألم الشعور بالمهانة والعجز. هناك كره للذات بسبب الشعور المؤلم بأن الجبن هو الذي يمنعها من التمرد. أضف إلى ذلك الضغينة ضد المتسببين في هذا الوضع المهين، والرغبة في الانتقام منهم عاجلاً أم آجلاً، في الدنيا وإن تعذر ذلك ففي الآخرة.
لتقدير حجم الضغينة والحقد، انظر إلى ما تنضح به خطب الشعبويين وكتاباتهم، وخاصة في الفضاء الافتراضي، من عنف لفظي وبذاءة مقصودة ورغبة واضحة في الإيذاء.
هؤلاء الناس هم الذين يصوتون لدونالد ترامب في أمريكا، وناريندرا مودي في الهند، وجايير بولسونارو في البرازيل، ورودريغو دوتيرتي في الفلبين، وقيس سعيد في تونس.
وهم كمن يصوب سلاحه نحو عدو وهمي، فلا تصيب الرصاصة إلا قدمه، لأن الصفة الأساسية للقادة الشعبويين هي انعدام الكفاءة في البناء والبراعة في الهدم، سواء كان هدم الاقتصاد كما يحدث اليوم في تونس والأرجنتين، أو هدم الصورة والسلطة الناعمة في أمريكا، أو الوحدة الوطنية كما في الهند.
الرابح الوحيد في هذه الصفقة الجديدة الخاسرة لشعب الرعايا هو من يرصد بذكاء مخزون الضغينة ويستغله كرافعة للوصول إلى السلطة، صارخًا بأن سبب مآسي "الشعب" هو "السيستم"، أي منظومة النخب، سواء كانت في الحكم أم في المعارضة.
عادة ما يخرج هذا النوع من الناس من صلب الرعايا – على سبيل المثال قيس سعيد في تونس – ولكنه قد يخرج أيضًا من النخبة – على سبيل المثال ترامب في أمريكا – وذلك في إطار صراعات داخل النخب نفسها.
انظر كيف يركز الجمهوريون في أمريكا حقدهم على كبرى الجامعات العريقة، لأنها حاضنة النخب التي لا تشاركهم نفس التوجهات الأيديولوجية. ألم يقل نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس بصريح العبارة: "الجامعات هي العدو"؟
ها قد تجمعت لدينا كل المعطيات اللازمة لفهم الشعبوية. إنها ليست أيديولوجيا، لأن الأيديولوجيا هي فكر ومشروع، بينما لا تمتلك الشعبوية سوى طاقة متفجرة من المشاعر المدمرة، أساسها الغضب والشعور بالمهانة والحقد والرغبة في الانتقام، وليس لديها من مشروع سوى تدمير "السيستم".
وهي الحالة النفسية – الفكرية لشعب الرعايا التي يستغلها أخطر الديماغوجيين للوصول إلى السلطة لصالحهم، لا لصالح من خدعوهم باللعب على غرائزهم البدائية.
إن آخر ما يحتاجه التعامل المسؤول مع الشعبوية هو الرفض والاستهجان والسخرية والإدانة، فما بالك بالازدراء؟ أنت تتعامل مع صرخات ألم وغضب لجزء من المجتمع لم تنتبه إليه حتى النخب الثورية، وهي منشغلة بالصراعات الداخلية ومع نخب الثورة المضادة.
قد تكون من الفوائد الجانبية لهذه الظاهرة أنها تجبرنا، بفظاظتها وخطورتها، على مراجعة كل السذاجات التي سيطرت على عقولنا وقلوبنا منذ عقود.
- أولى هذه السذاجات: تصورنا للشعب، هذا المفهوم الذي لا يمتلك جذورًا في تاريخنا، وإنما في تاريخ الغرب، وبالتحديد الثورة الفرنسية.
تكاد تسمع رنين الخشوع وأنت تسمع التقدمي واليساري والديمقراطي ينطق بالكلمة.
وتأتي ظاهرة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، على سبيل المثال، لتذكرنا بما يرفضون الاعتراف به. فكما لا يجوز تدنيس الشعب، لا مجال لتقديسه. ففي داخل كل شعب مجموعتان رئيسيتان – تتجاوزان الجنس والطبقة والعمر والمستوى التعليمي، مع إمكانية التداخل والتحول بينهما -: الأولى هي مجموعة تحركها القيم، والثانية هي مجموعة لا تحركها إلا الغرائز وأحط المصالح.
أليس هذا ما يفسر أن 76 مليون شخص صوتوا بكل حرية وبكل معرفة، وعلى الرغم من وضع اقتصادي مقبول، لترامب بكل ما يحمله من صفات؟ ألا يعني هذا أنهم وجدوا فيه أنفسهم، وأنه كان يعبر بصراحة تامة عن كرههم للنخب وعنصريتهم وخوفهم من المهاجرين الذين يهددون ما يعتبرونه هويتهم، ناهيك عن تهديدهم لفرص العمل؟
ما يكشفه هذا الموقف هو أن فكرة الشعب النقي الطاهر الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" هي مجرد خرافة. ألم يصبح واضحًا أن هناك مبالغة في التفاؤل بشأن الطبيعة البشرية، وأن التجربة أثبتت أن الأفراد يختارون في انتخابات حرة ونزيهة أمثال ترامب وسعيد وميلي ودوتيرتي بكل ما يحملونه من أحقاد مدمرة، لأنهم بكل بساطة يشبهونهم؟
- السذاجة الثانية التي تدمرها الشعبوية هي مفهومنا للثورة. لطالما تصورناها قفزة هائلة إلى الأمام، تحركها القيم والآمال في غد مشرق يعيش فيه الذئب جنبًا إلى جنب مع الحمل.
إلا أن الشعبوية، بوصفها إرادة لتغيير الواقع بالقوة إذا تطلب الأمر، هي أيضًا ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فمنذ قرن من الزمان، كانت النازية ثورة شعبوية، وما يحدث اليوم في أمريكا مع ترامب هو ثورة شعبوية، بل وفي أقدم معاقل الديمقراطية.
وهذا يعني أن الثورة قد تكون أيضًا قفزة هائلة إلى الوراء، تحركها أخطر الغرائز البشرية، مثل الخوف والحقد والانتقام من أعداء حقيقيين أو متخيلين.
- السذاجة الثالثة تتعلق بالديمقراطية، التي تفترض أن آلياتها، مثل حرية الرأي والتنظيم والانتخابات، لا يمكن إلا أن تأتي بالأفضل لإدارة الدولة.
فعليها الآن أن تتقبل أن كل هذه الآليات قابلة للسطو والتحايل وتغيير الوجهة، وأنها قد تقع في قبضة المال الفاسد والإعلام الفاسد، لتوصل بطريقة ديمقراطية إلى سدة الحكم ألد أعداء الديمقراطية.
ولكن أليس علينا أن نعترف بأن الشعبوية لا تخطئ عندما تعتبر أن الديمقراطية الليبرالية هي في نهاية المطاف صفقة ذكية بين النخب، بهدف التداول السلمي على السلطة وتجنب الدخول في حرب دموية مكلفة، مع استمرار استغلال الرعايا من خلال انتخابات يتحكم فيها المال والإعلام، بحيث يكون الخيار "الحر" للمخدوعين محصورًا بين "موسى الحاج" و"الحاج موسى"؟
إن ما تفرضه علينا الشعبوية ليس الكفر بالشعب أو بالثورة أو بالديمقراطية، وإنما ضرورة الاستماع إلى صرخات الاحتجاج والألم المتصاعدة من الجماهير المهمشة، ومراجعة طرق تفكيرنا بهدف تقديم بدائل فعالة، بدلاً من ترك هذه الجماهير تجري وراء سراب كل مسيح دجال يظهر لهم في صورة المسيح المخلص.
إن ما نحن مطالبون به اليوم هو حشد كل طاقات العقل الجماعي لوضع نظام ما بعد الديمقراطية – أو نظام الشورى الدستورية، على حد تعبير الكواكبي، أو نظام الحكم الرشيد – أياً كان الاسم الذي نطلقه عليه، النظام القادر وحده على فهم الاحتجاج الشعبوي والاستجابة لمطالبه الأساسية، وعلى رأسها التوزيع العادل للثروة والسلطة، وخاصة الاعتبار، وهذا هو الشرط الأساسي لتحويل شعوب الرعايا إلى شعوب مواطنين.
مثل هذا النظام لا يمكن أن يقوم إلا على أربعة أركان:
- الحفاظ على مكتسبات الديمقراطية الليبرالية الغربية والبناء عليها، وعلى رأسها وضع حد للصراع الدموي على السلطة من خلال آلياتها الكلاسيكية، أي الحريات الفردية والجماعية، والفصل بين السلطات وتوازنها، وحتى الانتخابات، ولكن في مجالات محددة يتم التوافق عليها حتى لا تتحول هذه الانتخابات إلى مغامرة ومقامرة بمصير الشعوب، وحتى بمصير العالم كما هو الحال اليوم بعد انتخاب ترامب.
- تسخير الديمقراطية من خلال سياسات اقتصادية إرادية لفرض أقصى قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، لأن النظام السياسي الديمقراطي لا يمكن أن يثبت، وخاصة في بلداننا، إلا إذا بني على قاعدة "لا حرية بدون عدالة، ولا عدالة بدون حرية".
- تطوير آليات تسمية كبار المسؤولين في كل المستويات، بحيث يتم استبعاد كل أدوار المال الفاسد ووسائل الإعلام – وغدًا الذكاء الاصطناعي – والنموذج الأمثل هو كيفية تسمية رئيس وكالة ناسا، وجامعات هارفارد وأوكسفورد وكامبريدج، أو اختيار الفائزين بجائزة نوبل.
- النقطة الأهم: إن ما تفيض به خطابات وكتابات الشعبويين من عنف لفظي وبذاءة مقصودة ووقاحة مبالغ فيها، ليست سوى ردة فعل طفولية لأفراد يعانون من الإحساس بعدم الاحترام، وبالتالي يركزون على إظهار كل علامات عدم الاحترام تجاه من يعتقدون أنهم لا يحترمونهم.
صحيح أننا لا نستطيع أن نفرض المحبة على الناس، ولكننا نستطيع أن نفرض الاحترام من خلال إلزام البيروقراطية بالتعامل باحترام مع الجميع، وجعل احترام المسؤولين لأنفسهم وللآخرين ولمهمتهم أولى متطلبات الاختيار والترقية، وفرض احترام الحقيقة على الإعلام من خلال قوانين رادعة للكذب، وتغليظ العقوبات على خطاب الكراهية والتحقير في وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى المدى الطويل، إعادة كتابة المناهج الدراسية لحذف كل ما يحط من قدر الآخرين.. إلخ.
وهذا يعني وجوب تبني سياسات طويلة الأمد في المجالات التربوية والإعلامية والسياسية، بهدف تنمية قيم أساسها قيمة الاحترام، وهذه القيمة لا تقل أهمية عن التنمية الاقتصادية، لأن كل أشكال العنف الفردي والجماعي، والتي تتجسد في الثورات الشعبوية ضد النخب المتغطرسة، محركها الأساسي هو الشعور بالاحتقار.
أضغاث أحلام؟
ربما، ولكن ما هي البدائل لديمقراطية هشة مهددة بالاندثار، وأنظمة استبدادية دينية أو علمانية تكرر نفس العبث، وثورات شعبية تجهض، وثورات شعبوية تزيد الطين بلة؟ أي خيار آخر حتى لا يكون مستقبلنا كسيزيف، الذي حكمت عليه الأقدار بالعودة مرات ومرات لوضع الصخرة على قمة الجبل، لتتدحرج مجددًا نحو القاع؟
ولا بد للليل أن ينجلي.